الأحد، 26 سبتمبر 2010

رأس وأربع عيون





لم يعد الأمر كمسرحيةٍ هزليةٍ نقوم بها نحن الاثنتان _ و أعني بذلك أختي أمل وأنا _ بل هو بخلاف ذلك تماماً. قد يكون الأمر مسلياً في بدايته، لكنه سرعان ما ينقلب علينا انقلاباً موجعاً. استغلال التطابق الكبير بيني و بين توأمتي؛ جعلنا نُحرز أعلى تقدير في المدرسة، وبأقل جهد يُذكر. فعوضاً عن دراسة عشرة مقررات دراسية، كنا نتقاسمها أنصافا، وفي نهاية العام نتبادلُ المعلومات تبادلاً شفهياً .

لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تفاقم بعد وفاة والدي، حيث لم نجد غير أيادي جدتي الحنون تَهِّبُ لالتقافنا قبل أن تصل إلينا أيدي القدر. منزل جدتي القديم ، كان ينتظر من يمتلك نفساً عميقاً لينفث عنه غبار الوحدة _ هكذا كانت تردد جدتي_ ، بينما أنا رأيتهُ روضةً غنّاء.. نصبح على صوت زقزقة العصافير، التي تشمئز منهم أمل بخلافي أنا! ، ونمسي بحفلة سَمَرٍ ملؤها حكايات وبطولات جدي، التي تُحكى على لسان جدتي. ما أن تتلفع الشمس بردائها الحريري الأحمر خلف النخلتين القابعتين غرب الدار، حتى تشعل جدتي نار المدفئة لنستلقي بجوارها.. و نغفو على غيمةٍ من حب.

غيمة الحب التي كانت تجمعني و أختي قد تفاقم سئمها الشتاء، فأعارها للصيف. حفلة السَمَر التي كانت تجمعنا قرب المدفئة، كفنها الوقت وأودعها تابوته الحديدي، فجدتي لم تعد تذكرها بعد أن تآكلت ذاكرتها المثقوبة أصلا، وأخذ يستولي الخرف على خلايا عقلها خلية تلو أخرى. أختي أيضاً كانت مصابة بخرفٍ من نوعٍ آخر، علّه أخطر من ذاك الذي أصاب جدتي. حفلات السمر التي كنت ألتحف خلالها بصوت جدتي، اختلفت لدى أمل؛ فقد كانت تقضيها برفقة شيطانها الليلي وشيطانها النهاري. مكالماتٌ غرامية، ومواعيدٌ في النهار ، وحفلاتٌ في آخره .

بكيتُ البارحة كما حد التشظي ، كرهتُ ذاتي حدّ الانشطار. لا أدري كيف تطورت المواقف، ومتى وصلت إلى ذروتها. لكني لم أجد نفسي إلا سجينة حجرتي المحمومة بألمي وبي، امتنعتُ عن الخروج، فقد أصبحت النقطة السوداء لكل السهام العمياء التي لا ترى في الدائرة إلاها، صرتُ صيدا سهلا لكل الشتائم التي تقذفها ألسنة الأهالي، الصغار أيضا يتنادرون بمناداتي ( بأمل الساقطة ) ! أيامٌ ضائعةٌ عشتها مع تقاسيم وجهي الذي مللتُ استعاراته الغير بليغة والميتة حيث يغيب كل شيء إلا وجه الشبه مع أختي. وأنا من بينها و جدتي أكوّر نفسي كقنفذٍ منزوع الأشواك، وأغوص في نوبات بكائي، التي لا تنفع معها حالات التخدير القسري، أو التحايل على ذاتي.

لجلب دواء جدتي ، عبرتُ الطرقات، واجتزتُ ساحة الأطفال دون أن ألقى المضايقات المعتادة، حييتُ الجيران فردوا التحية بأحسن منها، حينها ارتسمت فوق شَفَتَيّ ابتسامةُ نصرٍ، وأنا أشد النقاب على وجهي، متشبثة به، أخشى ضياعه أو غدره بين الخطوة والأخرى، أتابع طريقي والعالم بأسره قابعٌ أسفل قدميّ .
اتسكعُ لأول مرة في الأزقة بلا استحياء من أحد، فخلف غمامة السواد هذه استطعت أن أسرق لي شيئا من حرية، هذا ما دار ببنات أفكاري في ذلك الوقت. ابتسامتي صارت تتسع وتتسع لتُحدِثَ أخدودين عميقين في خدَّيّ، هذا والسواد يلبسني بينما أخلع مني كل شبه بأمل.

الأربعاء، 15 سبتمبر 2010

البديل



تسللت خيوط الشمس الذهبية إلى غرفتي بكل أدبٍ واحترام ، إلى الحد الذي جعلها تخترق العوازل دون دقٍ ولا طق ، لتوقظني من السُبات الذي لم أهنأ فيه سوى ثلاثِ ساعاتٍ أخيرة . كانَ النوم من أصعب الأمور التي واجهتها ليلة البارحة ، فقد قضيتُ الليل أبحث فيه عن روايات آن هامبسون و جانيت ديلي في المكتبة القديمة ، لأفاجئ بها صغيرتي سارة ، التي تسلل الكبر إليها دون أن ألحظ ذلك .

الغبار الذي اخترق رئتاي وأنا أبحث بين طيات الكُتب القديمة ، ضاعف نوبة الربو لدي ، فكُنتُ مضطراً إلى الجلوس تحت جهاز البُخار لستين دقيقة . لم يكن هذا مهماً بالنسبة لي ، فمجرد التفكير بفرحة سارة وهي ترى رواياتها التي خبأتها لها لخمسة عشر عاماً ، كفيلاً بإزالة كل متاعب الدنيا عن خشبة حزني .

لمفاجأة سارة ، يجب علي مفاجأة سعيد ، ابني الذي يكبرها بخمسة أعوام . أعرف عنه حبه للمأكولات البحرية، خاصة السمك المشوي، والربيان المجفف . لذا كانت وجهتي صبيحة اليوم الأخير من شهر رمضان إلى السوق المركزي، لأبتاع من السمك والربيان ما أملأ به عين ابني قبل معدته.

عند عودتي من السوق ، كانت الشمس قد توسطت بؤبأ السماء، وبدأت تتعرى شيئاً فشيئا ، والحاج أحمد قد نسي تشغيل مكبر صوت المئذنة كما يبدو !. إذ لم أسمع سُعاله أول ما يلتصق فمه بالمُكبر، ولا شجي صوته وهو يدعو إلى مائدة الله. تعريتُ أنا الآخر أمام الله، وصرتُ أحلق بجناحين وثيرين، جناح خوف، وجناح رجاء، باغياً وطامعاً في الكثير الكثير.

ما أن فرغت من الصلاة، حتى انقطعَ رنين الهاتف الذي اختطف مني لحظة خشوع نادرة. توجهتُ إليه لأرى الضوء الأحمر يُدلي برسالةٍ صوتية ! لم أهدر المزيد من الوقت، وضغطتُ الزر بسبابتي.

" مرحباً أبي ؟ كيف حالك ؟ أتمنى أن تكون بصحة وعافية . أعلم إنّا أولاد عاقّون، ومقصرون في حقك، لكن أنتَ تعلم بحقيقة عمل أخي، ومتطلبات سفره الدائم، وأنا أيضاً أعاني من ذات الشيء مع زوجي . آه .. هذا لا يهم ، فقط أتصل لأخبرك بأن رحلتنا قد تأجلت، أي إنّا سنصل صبيحة الغد لا اليوم كما أخبرتك سلفاً . فقط لا تحزن، وكُن على يقين بأنّا لن نحتفل بالعيد إلا معك، مع السلامة .. أحبك أبي "

ابتسمتُ وخيال سارة ما زالَ عالقاً في مخيلتي. الطفلة التي أسمتها زوجتي سارة نسبةً لاسم صديقتها الروسية، ذات الشعر البرتقالي والعيون العسلية، كانت تطمح لأن تكون طفلتها بالجمال ذاته. إلا إن طفلتي كانت أجمل بشعرها الأسود الكاحل، وبياض بشرتها الثلجية. لا أذكر كم من الوقت مضى دون أن تعانق عيني براءتها، فمنذ أن انتقلت للعيش مع زوجها في إحدى البلاد الأوربية، لم أرها إلا من خلال شاشة الكمبيوتر، وذلك عن طريق محادثة تسلخُ المسافات والأزمنة، وتجعل من كل بعيد قريبا!

ليلة العيد لم تشم عيني رائحة النوم، كُنت ثملاً جداً، شربتُ من كؤوس الانتظار والترقب ما أتخمني. استيقظتُ على صوت الحاج أحمد ينادي لصلاة العيد، بينما كانَ الهاتف يرن لشيء آخر !. أجبت على الهاتف : السلام عليكم ..
- وعليكم السلام، أبي هذا أنا سعيد
- أهلاً بُنيّ سعيد، متى اللقاء يا بني ؟ أما كان من المفترض قدومك البارحة؟
- أبي ، أنا متأسفٌ جداً .. أعترف لكَ بخطيئتي والتمس منكَ الغفران، في الواقع أنا الآن أحادثكَ من مرسيليا، لدي اجتماع هام ولن استطيع المجيء، عيدكَ سعيد أبي ، وداعاً.

أنهى المحادثة تلك قبل أن تسافر الجملة الأخيرة في خلايا الهاتف، لم أكن أريد التفكير بالموضوع طويلاً لئلا يأفن قلبي بعتب عليه. صليّتُ صلاة العيد في المسجد المجاور وعدتُ سريعاً لانتظار ابنتي سارة !. بشكل روتيني فتحتُ الكمبيوتر، فانفتح الماسنجر بشكلٍ روتيني آخر ، تفاجأت بسارة تحادثني من خلاله، وتدعوني لإجراء محادثة فيديو !
انفتحت أمامي شاشة صغيرة مربعة، وبانت من خلالها سارة بشعرها الأسود الطويل تحدثني :

- مرحباً أبي .. كل عام وأنت بخير.
- وأنتِ بخير ، لكن .. أنتِ ؟
- في الواقع ، بعد تبديل الحجز، لم نحصل على رحلة للبحرين ، آسفة أبي لا تحزن.
- لا ، لا تقلقي، يحدث هذا كثيراً .. كما حدثَ معكِ في العيد الماضي، أتذكرين ؟
- أبي أرجوك اعذرني، على كلٍ نحن الآن نرى بعضنا البعض من خلال هذه الشاشة، على اثر تقدم التكنلوجيا.
- أجل، التكنلوجيا!

أخذتُ نفساً عميقاً ورميتُ الكائن العولمي بعيدا، وأصوات الأطفال وأغانيهم من حولي تتعالى " عيدكم مبارك .. عساكم من عواده .. عايدين سعيدين " .

من عواده ؟ في الواقع لستُ واثقاً بأني أبغي العودة !