السبت، 25 ديسمبر 2010

عِقد





اليوم ما قبل الأخير قد مضى، وبقي اليوم الأخير!

كوني مزارعاً بسيطاً يعني أن أعيش في كوخٍ صغيرٍ، كحالِ أبي، وجدي، وجدُّ جدي. وتعيش زوجتي وأطفالي طيلة الدهر بأفواهٍ منفرجة وعيون لا تتعب من التحديق بحاجيات الغير، بحسرةٍ وتمني. وإذا ما أردتُ الإفراج عن حالهم، توجب عليّ الاستدانة من مختار القرية، ورهن بستاني الصغير الذي ورّثَه جد جدي لجدي، وجدي لأبي، حتى وصل إلي عن طريق أبي.

تعبتُ وأنا أقَلِّبُ أصابعي في العدّ، أثني وأمد، أمد وأثني، متمنياً زيادة إصبعا واحداً، ليزيد من حصتي في السداد. تخطر في بالي أفكاراً مجنونة، تتقلب كلما قلبتُ التربة وجهاً. ماذا لو حرقتُ بستاني؟ ماذا لو سرقت بضعة دنانير من متجر الحاج محسن؟ ماذا لو حرّضتُ أحد أطفالي على....، أنفضُ رأسي بشكلٍ هستيري، لئلا تستحوذ عليّ الأفكار المجنونة، أرمق الأفق البعيد، فيجذب بصري وميضاً في منتصف البستان، حسبتهُ للوهلة الأولى عمليات إغراء أتخذتها الشمس حيالي، أنفضُ رأسي مرةً أخرى، أقشعُ عنه لعنات مسيطرة، أو تحاول السيطرة.

احتمي بجذعِ نخلةٍ وأمسحُ قطراتٍ من العرق صارت سيولاً، من غرتي حتى أسفل ذقني، أتنفس بصعوبةٍ متجاهلاً ألم خاصرتي الذي لا يبرح في تعذيبي ليل نهار! أسمعُ هتف هاتفٍ من خلفي: " عُمتَ مساءً يا عبد الغني "

تتأرجحُ ألواني بينَ الحمرة والزرقة، والمختار بفمه العريض وشاربيه السميكين يقهقه ويعاود السؤال اليومي : " متى تعيد أموالي يا غني؟ "
اعتادَ الناس في هذهِ القرية مناداتي" بغني "عوضاً عن اسمي المركب من شطرين "عبد" و "الغني"، إما للسخرية بحالي، وإما لراحة ألسنتهم وحناجرهم، فأنا إلى اليوم جاهلٌ لما يتفوهون.
أعادَ سؤاله ببرودٍ أكبر، وهو يطيل المد في كل كلمة: " متى تعيد أموالي يا غني؟ "
رسمتُ لهُ أضحوكة كبيرة على وجهي، وبإطالةٍ في المدّ أجبته : " اليوم، اليوم قبل المغيب يا مختار "
قهقه بشرهٍ كعادته، مما جعل كتل اللحم الملتصقة على جسدهِ تهتزُ بإفراط بشكلٍ يستدعي الضحك. رحل وأنا ماسكاً فمي بكلتا يديّ خشية تسرب ضحكاتي الداخلية إلى مسمعه.

بينما أنا أتابع حركة المختار خارجاً من بستاني، وأقارنها بمشية البطريق، إذ لاح لي في منتصف البستان ذات الوميض الذي لمحته قبل لحظات، تثاقلتُ المسير لاكتشاف سره، فأنا من الناس عديميّ الفضول، ثم أن المسير من موقع راحتي قرب النخلة، إلى منتصف البستان، شاق للغاية!، لكن بريقه المتواصل جذبني، فرحتُ أسعى خلفه. ما أن وصلتُ إلى المنطقة المقصودة، حتى صدرت مني شهقاتٍ متتاليةٍ لم استطع إيقافها، وأنا أرى عقداً مرصعاً باللؤلؤ والأحجار الكريمة!

*

انحنيتُ رغم الألم لالتقافه، لكنه ما أن اقتربت من ملامسته، حتى تلاشى!، قرصتُ أذني للتأكد بأنّي لستُ في المنام، فأحسستُ بألم القرصة. أعدتُ النظر فرأيتهُ على بعد أمتار! انفتحت أساريري ورحتُ مهرولاً للظفر به، لكنهُ للمرة الثانية تلاشى بعدما أحسّ بقربي!، عقدتُ حاجبيّ ورفعتُ إزاري متحدياً إياه، ورحتُ ألحقُ بهِ كلما هرب من قبضتي، كما يلحق القط لاصطياد فأره. ظفرتهُ أخيراً متعلقاً على غصنِ شجرة، كان التعب قد بلغ أشده لدي، تنفستُ الصعداء و دسستهُ في جيبي.

بعد ساعة من الراحة هرولتُ لمتجر الحاج محسن، الذي ناظرني بنظرات ملؤها الشك والريبة، وأعاد العقد لحضرتي متعذراً عن شراءه، مستنداً بحججٍ واهية، كان أبسطها عدم توافر المادة لديه. أعلم في نفسي عن شخصِ محسن، وأعلم تفكيره، عاداته، مبادئه، وأخلاقه، كعلمي الآن بشكوكه حول ملكية العقد، إذ أن مزارعا بسيطاً لا يمكنه امتلاك عقدٍ كهذا،! شعرتُ بإحباطٍ كبير، لكنّي وضعتُ البستان نصب عينيّ وردّدتُ في رأسي، " البستان أولاً ، البستان! "، حاولتُ إقناعه بطرقٍ شتى، بأن العقد يعود لزوجتي التي ورثته من والدتها، والتي ورثته هي الأخرى من والدتها، إذ أن العقد من سلالة أهل زوجتي، ولم تفرط فيه إحدى المالكات، سوى زوجتي وذلك حفاظاً على البستان.

عُدتُ إلى البيت خفيف الوزن، إذ ما كنت أحملهُ فوق ظهري وفي جيوبي، وحتى في سلة أشيائي من همومٍ، قد انقشع! بعد أن سلّمتُ ثمن العقد إلى المختار، وبقي منه ثلاثة آلاف دينار هم في جيبي. قصصتُ على زوجتي مجريات اليوم، فما لقيتُ منها سوى التكذيب! لم أعرها اهتماماً، ألقيتُ بجسدي على فراشي، ورحت في نومٍ هانئٍ، ربما لم يهنئ به أحد المزارعين من أسلافي حتى.

في صبيحة اليوم التالي، استيقظتُ متأخراً على غير العادة، دعكتُ عينيّ، وماطلتُ في( التمغطِ)، وأنا أندهُ زوجتي، لكن دون مجيب! ارتفعَ غيضي، صرتُ اشتمها للمرة الأولى، لكن دون مجيب! اضطررتُ للنهوض، إلا إنّي أحسستُ بيدٍ خفيةٍ تردعني، حاولتُ معاودة الكرّة! لكن ذات الشيء يصيبني، ما أن أوشك على الاستقامة حتى أُدفَع للفراش مجدداً.

بلعتُ ريقي، ورحتُ انظر في زوايا الحجرة، أتأكد من كوني في الحياة الدنيوية. كل شيء كحاله مذ آخر مرة أسقطت نظري عليه! استدرتُ لأرى الجانب الآخر من الحجرة، فكان كل شيءٍ متطايراً في الهواء! الخزائن، الأواني، أدوات الحرث والزراعة! كل شيء يكسر قاعدة نيوتن، الأرض تفتقر للجاذبية!
لابد أنني أحلم!، ضحكتُ على حلمي الغبي، حتى ثملت! ما أن سكن المكان من ضحكاتي، حتى سمعتُ ضحكاتٍ غريبةٍ لا أعلم مصدرها! تلفتتُ في المكان، فلم ألقى سوى الحاجيات المتطايرة! انبعثت في نفسي خيفة، وأنا حتى لا أستطيع الوقوف!
تدحرجتُ على الأرض أبغي الخروج من الحجرة الكابوسية، إلا أن سترةً باليةً عرقلت خروجي، شتمتها في نفسي وفي علني، فغضبت مني وكأنما تفهم لي! قمطتني وراحت تلعب بي كما تلعب الرحى بالطاحونة، قذفتني على المرآة، فصرختُ غالقاً عيناي، إذ أنها منيتي دون شك!
ردّتني المرآة إلى الأرض، فتعالت مني صيحات إغاثة، لم يجب عليها سوى ضحكاتِ السترة التي طارت بعيداً عن جسدي، وتركتني عارياً من أنفاسي.
كانت تضحك وتضحك كلما رأتني أزحف للخلف مخافةً منها، وفي كل مرة أرى فيها وجهاً مختلفاً عن الآخر، فتارةً يكون شبيهاً لزوجتي، وتارةً أخرى لأحد أطفال، أصرخُ فيها وأنا مازلتُ ممسكا بخاصرتي مغلقاً عيناي عن الخرافات التي تحاصرني.

أجبرتُ على الوقوف، وفتح عينيّ كالبقر، فلا أنا استطيع الجلوس ولا استطيع إغلاق عينيّ، سمعتُ صوتاً رقيقاً منبعثاً من السترة: " أين خبأت عقد أختي يا سارق العقود ؟ "
على الرغم من نعومة حسّها إلا إنّي كُنتُ أرتعش خوفاً، رحتُ أنادي سُكان البيت: " سلمى، أحلام، سعد، سعيد، أين أنتم؟! "
قهقهت من جديد، وصرتُ أرى في وجهها وجه زوجتي وأولادي مرةً آخرة، وما أن كفت عن قهقهاتها، أردفت بحزنٍ شديد: " العقد الذي سرقته هو سر الخلود في قبيلتي، وسرقتكَ لعقد شقيقتي جعلها تصارع الموت، أعطني العقد واستعد عائلتك "
- " لكنّي لم أسرقه، صدقيني أيتها السترة العجيبة.. رأيتهُ ملقىً في بستاني "- " يالك من جشعٍ طمّاع، لا تستحق حتى المساومة "- " العقد حلّ أزمتي المالية، كنتُ سأفقد بستاني "- " وما ذنبنا نحن أيها السارق اللعين، إن لم تعِد العقد قبل المغيب، يتوجب عليك نسيان عائلتك "

قهقهت بمكرٍ، وسقطت على الأرض دون حراك، اقتربتُ منها بحذرٍ شديد، تفحصتها بعينيّ، فكانت هادئة جداً، وكأنها لم تكن تطير، لم تكن تتحدث، لم تكن تشاغبني! اقتربتُ أكثر، أمعنتُ النظر، فكانت الفاجعة! " هذهِ سُترتي!؟ "

لم أفهم ما يدور في عالمي!، فقط ما كان يرن في أذني هو صراخ أطفالي، إغاثات زوجتي، وذلك العقد اللعين. بعجلةٍ بالغةٍ قصدتُ بيت المختار، طلبتُ منهُ ديّناً جديداً، ورهنتُ بستاني مرةً أخرى. لم ألقى منه سوى القبول، فأمثاله يتسابقون لإدانة المحتاج، والقنص بعد ذلك على ممتلكاتهم.

بذات العجلة أيضاً، قصدتُ متجر المجوهرات، وسلّمتُ الحاج محسن قيمة العقد، واستعدتهُ في غصون ثوانٍ، بعد أن قصصتُ عليه أكذوبات جديدة بشأن زوجتي وعقدها، الذي مابرحت تنعاه ليلاً.
ألقيتهُ في البستان، في ذات المكان المشئوم، ورحتُ أجري جرياً إلى البيت، وألم خاصرتي يختفي شيئاً فشيئاً، ما أن وصلت حتى عانقتُ زوجتي وأطفالي، طلبتُ منهم السماح وسط بكاءٍ مرير، كان متبادلاً بيننا، أمسحُ دموع زوجتي، لتسقط دموع أخرى من محجر طفلتي أحلام. أوقف حفلة البكاء سؤال زوجتي: " أين كُنت طيلة هذا العام يا أبا سعد؟ ".

.
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق