الأحد، 5 ديسمبر 2010

أغرسكَ وطناً







عبسَ المرشد السياحي وأردفَ مُستاءً وهو يمسح قطرات العرق المتصببة على جبهته من حرارة الشمس: " فقط أخبروني، كيفَ تتركون أكسفورد، بيكادلي، وترافلجار، لتقفوا أمام كتلة من الحجارة أيها الأغبياء!؟ "


ابتسم الوفد الفرنسي مطأطئين رؤوسهم، بينما قهقه آخرون، غير عارفين عما يتحدث عنه المرشد حتى. من بينهم، كُنتُ أنا الوحيد عابس الوجه، بقُبعةٍ سوداء قد سترت شُقرة شعري، ونظارة سوداء قد أخفت زرقة عينيّ، أخترتُ لنفسي موقفاً في آخر الحلقة، أتابعُ الحدث بأبلغ من صمت. بينما كانَ الوفد يسبقني ببضعة أمتار، كُنتُ منشغلاً بمراقبة المنارة الغربية لمسجد الخميس. رفعتُ آلة التصوير وحددتُ الزوم على المنارة، حيثُ لا شيء يظهر سوى المنارة وزرقة السماء.

لعلَ تأخري أغاضَ المرشد المتعصب، فقد أتى إليّ يوبخني بلغته العربية، ظناً منه جهلي بما يتفوه - كما الجميع -: مالكَ تقف وكأنكَ المقطورة الأخيرة في قطارٍ كسول؟! "

ابتسمتُ في وجهه ابتسامةً بلهاء، فابتسم هو الآخر ابتسامةً مغصوبة. سمعتهُ يتمتم بصوتٍ خافت: " يا لكم من شعوب باردة، تماماً كبرود الأمكنة التي يلتحفون ثلجها "، ثم تابعَ بالانجليزية – بكل أدبٍ واحترام -: " تفضل سيدي، فالجميع قد سبقنا "
ابتسمتُ في نفسي، وبادرتهُ باللغة الانجليزية: ما هذهِ؟ (وأنا أشير بإصبعي للمنارة الغربية)
أجاب بعبوس: " منارة "
تابعتُ حديثي، لكن هذهِ المرة بالعربية: " هي المنارة الغربية للمسجد، وقد بُنيت في فترة متأخرة، وأعني بشكلٍ أدق خلال النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي، وينسب بناؤها لأبي سنان بن الفضل، الحاكم الثالث من عائلة العوينين."
شهق صاحبنا، وأضنه غير مصدق عروبتي، خاصة بعدما نزعتُ النظارة، لئلا تفوتني مشاهدة تفاصيل دهشته!

**

أنهيتُ زيارة جميع الأماكن الأثرية، السياحية القديمة، والمستحدثة. في كلِّ خطوةٍ أخطوها، كانَ يمر عليّ طيف أبي، يعلمني كيف أرسمُ علمَ بلادي، وأنقش أسفله قلباً أقسمهُ نصفين، أكتب في النصف الأول " بابا "، والمساحة الصغيرة المتبقية أكتب فيها " بحرين "، فينهرني ويمسحُ اسمهُ ليبقى في القلب كله الاسم الآخر فقط.

يعلمني كلَّ شبرٍ، وزاويةٍ قصّية في وطني، وأنا أبعدُ عنهُ آلاف مؤلفة من الكيلومترات. يشبعني حُباً لهُ دون رؤيا، يغذيني عروبةً وأنا متوسطاً الغرب، يغتال شهوتي وحريّتي، ثم يعقد قراني على فتاةٍ تكبرني قروناً!

كثيراً ما كنتُ أتساءل بيني وبيني، عن السبب الذي يجعل رجلاً يحمل في قلبهِ كلَّ هذا العشق لوطنه، بالدرجة التي تجعله يهلوسُ في نومه ويقظته، وفوق هذا وذاك يتركه مهاجراً لوطنٍ آخر! ألا يُعتبر هذا الاقتراف خيانة في دستور العاشقين؟، كانَ يجيبني: " هكذا شاء الله، إذ بعثَ في قلبيَ حُباً، وبعثتُ في رحم أمك حُباً، ثم أنجبتكَ حُباً، لأضحي بكَ حباً ".

كانت كلماته طلاسم، فلم أكن أفقه معانيها. أما اليوم، وأنا أحرث الأرض، وألقي في جعبتها بذور علمٍ وثقافةٍ وحبٍ، ادخرهم لي أبتي من زمنٍ بعيد. كانَ يعلم بقدر ما يحمل من شيباتٍ بيض، أن الأرض كريمة، والبذور المدخرة من النوعية الجيدة، لذا لم نتأخر في جنيّ محاصيلها.
اخترقَ خلوتي صغيري مُحمد، ينبش الأرض، ويسارع في تقليب التُربة، خلتهُ للحظة ينوي زراعة شجرة اللوز التي يحبها كثيراً، لكن المفاجأة لمّا أخرجَ شهادتهِ وقذفها في قعر حفرته الصغيرة، وأخذ يهل عليها التراب! تعجبتُ من صنيعه فرحتُ أسأله وكُلي عَجَب: " لِمَ يا محمد؟ "
أجابني: " لنحصل على شجرة وطن يا بابا ".
علمتُ حينها بأنّي أنجبتُ حُبّا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق