السبت، 20 أغسطس 2011

قدر مثعول


أحدّقُ في عينيهِ المتفرقتين، فمهِ المُحدَّب، جناحهِ المبتور! أحدّق بأحلامٍ طارت بعيداً في سماءِ الموت! كيفَ لم يستشعر؟ ربااه! نسيتُ بأنّي قرناه.. نسيتُ حادثة البتر! نسيته، نسيتُ نفسي، نسيتُ أحلامنا القصيرة! أيُّ أقدارٍ تلكَ التي تُفرِّغُ إبريقَ همومنا في فنجان، تملؤهُ سُكّراً، تذوّقنا إياه في مرّ ليالينا، تنفخُ فيه أملاً يقشعُ منهُ غبرة اليأس العالقةِ في الحواف! تُهديني عُمراً وتسرقهُ منك!
رفعتُ غيّ ردائي، ربطته أسفل خاصرتي، كفكفتُ الماضي، ودَّعتُ شطري، ورحلتُ من حيث ابتدأنا. من معبد القنط..! من حديث الجد عكم حين قال: " لتحيوا ضِعفَ الحياةِ المقدّرةِ لكم، اصنعوا ثلاثة أعمالٍ حِسان تنفع غيركم، ولا تَضُرْكُم. "
تركتُ أخي الملدوس بفعل حماقتي، ورحتُ أبحثُ عن ثلاثِ أعمالٍ حِسانْ! أثعلُ بهم عمري..!
هناك، على بُعد مترين، عائلةٌ سعيدةٌ تجمعها ابتسامةٌ، تملؤها محبةٌ، تغرفُ من فيض الحياةِ (سِتّها)، بطفلها، ببعلها، وعمّها! تخيطُ للزمنِ الأسودِ قناديلَ البياض، تملؤني حياة! تذكرني بماما. أتسربُ لسيارتهم عبر ضحكاتهم، أصغي لفوازيرَ جدهم، أدخلُ من حيثهم لحيث أكون بينهم! فيصرخُ ربّهم!
- اللعنة! ذبابةٌ ملعونة شتت تفكيري.. سلكنا طريقاً آخر!
- كان يجب أن تنتبه.. ما يعني أن تهزمكَ ذبابة؟
- لتذهبي معها إلى الجحيم، اصمتي يا امرأة!
تمسحُ بطرفها، أسفل جفنها، تحاولُ جمعَ عزّها، تغيبُ عن عالمها، فيرنُّ هاتفها!
- مرحباً !
- عزيزتي فرح، تأجلت الحفلة، الطريق المؤدي للمزرعة خطرٌ جداً، حادثٌ جمعَ ستٌّ مركبات، ولا علمٌ لنا بتفاصيل أخرى!
تسربتُ من ذات الفراغ الذي أدخلني. هذهِ المرة، بجناحيّن إلا رُبع! لم أستطع مجاراة الرياح، ولا سنى الشمس! سارعتُ بالهبوط على أقربِ لونٍ بنيٍّ صادفته. تَسَرُّبُ سّكرٌ لفميَ المقعّر وصُراخَ طفلٍ، جعلني أتيقن بأنّى أعتلي مثلجات شوكلاة !
حُذِفْنا أنا والمثلجات! قبل أن تَحُسّني الأرض، جدّفتُ بكل قوتي، لأتعلقَّ على.. ! على ربطةِ عنقٍ من قماشٍ فاخر! .. همهمات رجل الربطة لم تكن صعبة السماع!
- يالهُ من طفل! أكان يعلم بأن المثلجات مسمومة؟
حُذفت مرةً أخرى، بيدٍ تناقضُ نعومة قماشِ صاحبها. أتكأتُ على عربةِ مثلجات، رائحتها تنخرُ حواسي! هناك، لم يكن صعبٌ عليّ سماع عجوزين أكلَ منهما العمرُ حتى تخن!
- أرجوكَ يا ثيّد، أعد النظر في الأمر!
- أتفهمكَ يا ناجي، لكن كما تعلم طفلتي مصابة بوسواس النظافة! منزل المزرعة محاط بكل أنواع الحشرات، ومنزلي الذي تسكنه نظيف ومؤهل للسكن رغم بساطته.
- وعملي؟ عمل ذوجتي؟ مدارث الأطفال؟ ولدي أحمد مكفوف وقد اعتاد على المنذل..
- الليلة سأرسل شاحنة تنقلكَ وعائلتكَ إلى حيث تشاء، منزلي وأريده، حقي يا أخي.. حقي!
- حثبي الله ونعم الوكيل!
هو العمل الثالث المتبقي! ليثعل عمري، وأثعل أنا! فناجي يحتاج حشرة، وأنا .. ؟ وأنا أحتاج حُسنى. أي ناجي يحتاجني، وأنا أحتاج ناجي!
الساعة السابعة، الجميعُ مترقب.. ناجي وزوجته يربطان حاجياتهم في قماشٍ طويل، الأطفال يحدّقون في كلّ شبرٍ من ذاكرتهم، دموع البعض قد خانته، وآخرٌ يطبطبْ. الأطفال السبعة يرهطون بعضهم في حلقةٍ دائرية .. ! ويُطرق الباب!
- سيد ناجي .. ءأنت مستعد؟
- وعليكم الثلام ورحمة الله، نعم ثيدي، وعثى أن تكرهوا ثيئاً وهو خيرٌ لكم!
- طفلتي مبروكة .. مارأيكِ بالمنزل؟ أيروقُ لك؟
خرجتُ من تحتِ إزار ناجي، لأحطّ رحالي على أنفِ مبروكة المسنن. بحركةٍ بطيئةٍ خفضت بصرها لأنفها، وبحركةٍ أسرع فتحت فاهها، وبحركةٍ فاقت استيعابي أخرجت موجاتٍ مدويّةٍ من...
- أأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأه !
ضجّ المنزل! مبروكة تفر هاربة، الأخوان السبعة بين المد والجزر، ناجي وزوجته يجاهدون في التبرير، فيما الرجل الآخر قد فر خلف ابنته! العمل الثالث وقد أنجزته. حان لي أن أرتاح، وضعتُ رجلاً فوق رجل، رجلٌ فوق رجل، رجلٌ فوق رجل، واستلقيتُ على كتف أحدِ الصبية!
- ما مثدر الذبابة؟ ألم تتخلثي من القمامة؟
- بلا ..
- بابا بابا .. أتقثد هذهِ الذبابة؟ قتلتها.. لاشيء يدعوا للقلق!